بينما تتصاعد مظاهر التوتر في مصر، يسعى الجيش إلى جسر الهوة السياسية المتنامية في البلاد من خلال التأكيد على تسليم سريع للسلطة إلى المدنيين. لكن بادرة حسن النية التي يبيدها الجيش ورغبته في استيعاب الجميع، لا تنفذ إلى عمق المشكلة والمتمثلة في أن الاستمرار على النظام الرئاسي الموروث من حكم «مبارك»، يعيد تكرار الأحداث الدرامية للسنة الماضية. فأي اختراق ديمقراطي حقيقي يستدعي هندسة دستورية مغايرة تتنافس بموجبها القوى السياسية، وفقاً لنظام برلماني على الطريقة الأوروبية. فلو أن مصر قامت بالنقلة المطلوبة إبان فترة الدستور المؤقت الذي أُقر قبل سنتين، أو خلال المراجعات التي قامت بها مرسي عندما مرر الدستور قبل سنة، فإنه ما كان لها أن تعيش الاضطرابات الأخيرة والأحداث الدامية التي صاحبتها. ففي مصر تبقى الرئاسة منصباً قوياً، من يفوز به يظفر بكل شيء. ولئن كان هذا الأمر مقبولا في بلدان مثل الولايات المتحدة، حيث تتنافس أحزاب راسخة على الجائزة الكبرى، فإنها تمثل وصفة مؤكدة للاستبداد في بلدان مثل مصر، حيث يحظى الإسلاميون بالتفوق التنظيمي الذي يتيح لهم حشد الأصوات والوصول للسلطة، وبسبب تشرذم خصومهم وصعوبة التفافهم حول مرشح واحد، يمكن للإسلاميين ترجمة تأييد الأقلية لهم إلى انتصار رئاسي آخر. والمشكلة أنه لتفادي هذه النتيجة قد يقدم الجيش على قمع المساعي السياسية لـ«لإخوان المسلمين» وباقي الجماعات، ما سيحول الانتخابات المقبلة إلى مهزلة ديمقراطية. والنتيجة أن الرئيس المقبل سيكون ليس فقط فاقداً للشرعية، بل سيتحول الإسلاميون بانتصاره إلى خصم عنيد للنظام. لذا فإن النظام البرلماني وحده قادر على تلافي هذه السيناريوهات وضمان قدر من الاستقرار ومشاركة الجميع في بناء مستقبل مصر. فبموجب هذا النظام لن يكون بمقدور الإسلاميين الاستئثار بالسلطة حتى لو فازوا بحصة مهمة من الأصوات. ولنتمعن في السيناريو الأمثل بالنسبة لـ«الإخوان»؛ فرغم خروج الملايين من المصريين المناوئين لحكم مرسي إلى الشوارع ومطالبتهم بإسقاطه، ما زال «الإخوان» قادرين على حصد ربع مقاعد البرلمان، مع حصول السلفيين على 15 في المئة منها. وفي المقابل تنقسم القوى غير الإسلامية إلى فصائل تتوزع بين المسيحيين والديمقراطيين الاجتماعيين، لكن رغم قدرة «الإخوان» على حصد عدد أكبر من المقاعد مقارنة بأي قوة أخرى، يستطيع خصومهم تشكيل ائتلاف حاكم في البرلمان يشكل الحكومة، ولن يقدر «الإخوان» بمفردهم على تشكيل الحكومة ما لم يتحالفوا مع بعض العلمانيين لضمان التأييد، لاسيما أن «الإخوان» لا يستطيعون التعويل على السلفيين كما أظهرت التجرية، لكن وفي جميع الحالات سيبقى الإسلاميون عنصراً مهماً في اللعبة السياسية، وهو ما يجدر أن يكون في أي ديمقراطية تستحق هذا الاسم. بيد أن التعاون بين الإسلاميين والعلمانيين لتشكيل تحالفات حكومية، لن يُكتب له النجاح تحت نظام رئاسي. فبمقتضى النظام الرئاسي، لن يقبل الإسلاميون المشاركة في الحكم في حال سهل الجيش انتخاب رئيس مقبول، وحتى لو وافقوا على المشاركة في الانتخابات التشريعية ودخلوا البرلمان، رغم انتخاب رئيس من غيرهم يتمتع بسلطات واسعة في ظل نظام رئاسي، فسيتحولون إلى كتلة معطلة ويستغلون البرلمان كمنبر لإدانة الرئيس باعتباره تعويضاً غير شرعي لمرسي، ويدخل الصراع مرحلة من الشلل يعمد فيها الرئيس إما إلى تسخير شبكة الريع السياسي والفساد لشراء الذمم وتمرير القوانين، أو استخدام سلطاته التنفيذية بقسوة ليخلق ذلك موجات من الاضطراب وينسف مفهوم الديمقراطية. ومع أن الحكومات البرلمانية ليست الحل السحري لجميع المشكلات، فإنها علاج فعال لبعض أمراض الواقع السياسي. فمستقبل مصر اليوم رهين بوجود رجال دولة حقيقيين يختارون السياسات الفعالة والناجعة وعلى رأسها النظام البرلماني الذي يخلق أجواءً دستورية تشجع الأطراف السياسية جميعاً على التعاون وتشكيل التحالفات. وإذا كانت خريطة الطريق التي اقترحها الجيش لا تشير إلى هذا الحل صراحة، فإنها لا تلغيه أيضاً، فحسب ما جاء في الإعلان الدستوري الذي يفصل الخريطة، سيتم تشكيل لجنة من عشرة فقهاء دستوريين تقترح التعديلات الدستورية التي بدورها ستخضع للنقاش والتوافق من قبل لجنة أخرى مشكلة من 50 شخصاً تضم جميع حساسيات المجتمع، ثم تعرض النتائج النهائية على الاستفتاء، وكل ذلك في ظرف لا يتجاوز ثلاثة أشهر، على أن تعقبه انتخابات برلمانية خلال شهرين، ثم (وهنا بيت القصيد) على البرلمان أن يدعو إلى انتخابات رئاسية تجرى بعد أسبوعين من أول جلسة له، على أن يسلم الجيش السلطة مباشرة للحكومة التي تنبثق من البرلمان. وبإقدامهم على هذه الخطوة، يكون المصريون قد انضموا إلى نقاش عام يجري في العالم الإسلامي بأسره، فعندما احتشد الأتراك احتجاجاً على حكومتهم في الشهر الماضي، كانت إحدى تظلماتهم محاولات أردوجان استبدال نظام الحكومة البرلمانية بنظام رئاسي من خلال تعديل دستوري يسمح له بالانتخاب المباشر من الشعب كرئيس ذي صلاحيات واسعة. وبالطبع رأى الأتراك في خطوته تلك محاولة لتكريس سلطته، لذا جاءت الاحتجاجات لتضع حداً لطموحاته. والسؤال الآن هو ما إذا كان المصريون سينخرطون في هذا التوجه الرافض للنظام الرئاسي قبل أن يؤدي إلى إجهاض تجربتهم الديمقراطية الوليدة. بروس أكرمان أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة «يل» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»